قد يكون من المبالغة بمكان القول إنّ النتيجة "المتواضعة" التي حققها حزب "الكتائب اللبنانية" في ال​انتخابات​ النيابية جاءت مفاجئة، خصوصاً أنّها كانت متوقعة منذ ما قبل بلورة التحالفات، بل إنّ كثيرين من الغيارى على "الكتائب" كما من خصومها حذروا من الوصول إليها تحت غطاء "المبدئية" حيناً و"الشعبوية" حيناً آخر.

مع ذلك، أصرّ رئيس الحزب النائب ​سامي الجميل​ على مقاربة الاستحقاق من زاوية مختلفة. في آخر إطلالاته التلفزيونيّة قبل الانتخابات، بدا الرجل "مرتاحاً"، بل إنّه "بالغ" في إظهار "طمأنينة" لم تعكسها النتائج من قريب أو بعيد. وسواء كان الجميل مقتنعاً بما قاله، أو إنّه من مستلزمات الحملة الانتخابية، الأكيد أنّ "الكتائب" من أحزابٍ قليلة في لبنان تراجع حضورها بموجب القانون النسبيّ.

فيما يتباهى "​التيار الوطني الحر​" بامتياز ما وصفه بـ"التكتل الأكبر"، وتتفاخر "​القوات اللبنانية​" بكتلةٍ حزبيّةٍ واسعةٍ ومنتشرة تضاهي في الحجم أكبر الكتل، تقلّص حجم الكتلة "الكتائبية" إلى الحدود الدنيا، وباتت محصورة في دائرتين لا ثالث لهما. وإذا كانت "الكتائب" تحاول التعويض على نفسها بالحديث عن "رمزية" تكتسبها المقاعد التي حجزتها لنفسها، تُطرَح علامات استفهام كبيرة عن موقعها في المعادلة بعد "النكسة"، فهل حان وقت "المراجعة"؟!.

"الخطيئة المميتة"

قد يكون من الظلم تحميل النائب سامي الجميل أو غيره مسؤولية التدهور الذي أفرزته الانتخابات على خط "الكتائب"، بل إنّ من الإنصاف القول إنّ النائب الجميل عرف على مدى السنتين الماضيتين كيف يحافظ على الحزب، ويمنحه بصمةً خاصةً غُيّبت عنه طيلة السنوات السابقة التي تحوّل فيها "الكتائب" إلى "ملحق" أو "تابع" لهذا الفريق أو ذاك التحالف. لم يخضع الجميل لهذا الواقع، وأراد أن يثبت لنفسه وللجميع أنّ حزب "الكتائب" ليس مضطراً للحاق بركب أحد، وأنّه قادر أن يفرض شخصيته المتمايزة.

نجح الرجل في مكانٍ، ولكنّه أخفق في مكانٍ آخر، "إخفاقٌ" لا يتحمّل مسؤوليته بمفرده، باعتبار أنّه ناتجٌ عن مجموعة تراكمات أوصلت "الكتائب" إلى ما أوصلته إليه، وعكسه بوضوح "التخبّط" الذي أفرزته الانتخابات النيابية، والذي بدأ قبلها، وتُرجم بشكل جليّ في "تحالفات اللحظة الأخيرة"، التي قد تمثّل "الخطيئة المميتة" التي يدفع ثمنها اليوم. فبين "المبدئية" التي رفعها "الكتائبيون" عنواناً لمعركتهم، رافضين مدّ يدهم إلى أيّ من مكوّنات السلطة، وما سُمّي بـ"الانقلاب" عليها الذي مثّله "تحالف الضرورة" مع "القوات" في اللحظة الأخيرة، بعدما انتابهم الشعور بأن الأمور تكاد تفلت من بين أيديهم، خصوصاً بعدما تبيّن لهم أنّ التعويل على ​المجتمع المدني​ فقط قد لا يكون في مكانه.

لكن، حتى في "تحالف الضرورة"، لم يكن "الكتائبيون" موفّقين، بل إنّه يمكن القول إنّ "الحلفاء-الخصوم" عرفوا كيف يقتنصون التحالف ويوظّفونه لصالحهم، على حساب "الكتائب". فباستثناء مقعد النائب ​نديم الجميل​ في بيروت الأولى، كان واضحاً أنّ تحالف "الكتائب" و"القوات" خدم الثانية لا الأولى، إذ أسهم في رفع الحاصل الانتخابيّ لا غير، وهو ما حصل تحديداً في الشمال، حيث خرج "الكتائب" خالي الوفاض، علماً أنّ كثيرين لاموه أصلاً على التحالف مع "القوات" من دون موافقة الأخيرة على أيّ من شروطه المعلنة، وأولها انسحاب مرشحها في ​البترون​ فادي سعد لصالح النائب ​سامر سعادة​، ليفوز الأول على حساب الثاني، بعدما تحوّلت المعركة "شخصية" بينهما، وصلت لدرجة اتهام "الكتائب"، "القوات" بإطلاق الإشاعات المغرضة بحق مرشحها.

"إلى أين؟"

بمُعزَلٍ عن "التكتيك الانتخابي" والأخطاء التي ارتُكِبت، قد ينطبق سؤال النائب ​وليد جنبلاط​ الشهير "إلى أين" على الحالة الكتائبية اليوم، خصوصاً أنّ الواقع يؤكد أنّ نتيجة الانتخابات أتت مخيّبة للآمال. وإذا كان من "كسر الصيام" من "الكتائبيين" حاول التعويض عبر الحديث عن "رمزية" يكتنفها تصدّر النائب سامي الجميل للأصوات التفضيلية في المتن، وتكريسه "الزعامة" على حساب خصومه، و"رمزية" أخرى يمثلها حجز الحزب لمقعدين في الدائرة، فإنّ هناك من يقول إنّ "الكتائب" كاد يخسر المقعد الانتخابي الثاني، بسبب "التكتيك" أيضاً وأيضاً، وأنّ "الحظ" لعب دوره على هذا الصعيد، وإلا فإنّ لا شكّ أنّ "الكارثة" كانت أكبر.

عموماً، وبعيداً عن "البكاء على الأطلال"، فإنّ مراجعة شاملة تبدو أكثر من ضرورية اليوم، لتحويل "النكسة" إلى "حافز" للعودة القوية بما يليق بحزبٍ عريقٍ تحوّلت حيثيته من حيث يدري أو لا يدري إلى مناطقية أو حتى عائلية، وقبل فوات الأوان. ولعلّ من الضرورة بمكان أن تشمل هذه الاستراتيجية كلّ شيء، من سياسة الحزب وخياراته، وصولاً إلى الآليات التنظيمية، مروراً بتقنيات التفاعل مع الجمهور والمؤيّدين، لأنّها جميعها تكمّل بعضها البعض، وهي من العوامل التي جعلت الآخرين "يتفوّقون" في مكانٍ ما.

وبانتظار انتهاء مثل هذه "المراجعة"، لن يكون المطلوب "سلخ" الحزب عن بيئته وشعبه، ولا عن المبادئ والثوابت التي اعتمدها في المرحلة الأخيرة، بل قد يكون أكثر من منطقي أن يكرّس "الكتائب" نفسه بعد نتائج الانتخابات في خطّ المعارضة، التي يجيد فنونها رئيسه، خصوصاً أنّ النتيجة أثبتت أنّ له حيثيّته، ولو بدت محدودة في الزمان والمكان. ولذلك، فإنّ الأكيد أنّ العمل لاستعادة الوهج يفترض أن يبدأ اليوم، ومن دون أيّ تأخير، بعيداً عن الحسابات الانتخابية التي استأثرت بكلّ شيء في المرحلة الأخيرة.

"اهتزّ"... فهل "يقع"؟!

قد يقول قائل إنّ ما حقّقه حزب "الكتائب" ليس نكسة بالمعنى الدقيق للكلمة، وأنّه لم يخسر سوى نائبين، وقد يستشهد بأحزاب أخرى حصدت أيضاً كتلاً ثلاثية، ولا تزال تحتفل بـ"النصر" الذي تحقّق. قد يكون ذلك صحيحاً، ولكنّه يخدم أيضاً تحجيم "الكتائب"، لا تقويته، وإعادته إلى حيث كان.

وبعيداً عن "التنكّر" للواقع، لا بدّ من الإقرار بأنّ "الكتائب" اهتزّ في الانتخابات الأخيرة، انتخابات كان يفترض أن تقوي حضوره كونها تعتمد المبدأ النسبي الذي يعطي كلّ فريق بمقدار حجمه، ولو جاء مقنّعاً. ولعلّ الاعتراف بهذه الحقيقة تشكّل "الخطوة الأولى" في مسار تفادي "الوقوع"، مسارٌ سيكون على "الكتائبيين" وحدهم رسم معالمه في القادم من الأيام...